فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ}
ما زائدة، والتقدير: وإن نرِينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} وقوله: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} أي إن أريناك بعض ما وعدناهم: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛: {وَعَلَيْنَا الحساب} أي الجزاء والعقوبة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أهل مكة،: {أَنَّا نَأْتِي الأرض} أي نقصدها.
{نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} موت علمائها وصلحائها.
قال القُشَيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي: الطَّرَف والطَّرْف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى.
وقال مجاهد أيضًا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضًا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها.
وذكر وكيع بن الجرّاح عن طلحة بن عُمَير عن عطاء بن أبي رَبَاح في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها.
قال أبو عمر بن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدًّا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول.
قلت: وحكاه المهدويّ عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأوّل نفسه؛ روى سفيان عن منصور عن مجاهد،: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطَّرف الكريمُ من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم من قول ابن عباس.
وقال عِكْرِمة والشّعبيّ: هو النقصان وقبض الأنفس.
قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حَشّك.
وقال الآخر: لضاق عليك حشٌّ تتبرز فيه.
قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟ا أفلا يخافون أن يحلّ بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضًا عن ابن عباس ومجاهد وابن جُرَيج.
وعن ابن عباس أيضًا أنه نقص بركات الأرض وثمارها وأهلها.
وقيل: {نقصها} بِجَوْرِ وُلاَتها.
قلت: وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم.
قوله تعالى: {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغيير.
{وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن.
وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى رَوِيّة قلب، ولا عقد بَنَان؛ حسب ما تقدّم في البقرة بيانه.
قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم.
{فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضرّ إلا بإذنه.
وقيل؛ فللَّهِ خير المكر؛ أي يجازيهم به.
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشر، فيجازي عليه.
{وَسَيَعْلَمُ الكفار} كذا قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو.
الباقون: {الْكُفَّارُ} على الجمع.
وقيل: عنى به أبو جهل.
{لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي عاقبة دار الدنيا ثوابًا وعقابًا، أو لِمن الثواب والعقاب في الدّار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا} قال قَتَادة: هم مشركو العرب؛ أي لست بنبيّ ولا رسول، وإنما أنت متقوِّل؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك.
{قُلْ كفى بالله} أي قل لهم يا محمد: {كفى بالله} أي كفى الله: {شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بصدقي وكذبكم.
{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} وهذا احتجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب من آمن منهم في التفاسير.
وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سَلاَم وسَلْمان الفارسيّ وتميم الداريّ والنجاشيّ وأصحابه؛ قاله قَتَادة وسعيد بن جُبَير.
وروى الترمذيّ عن ابن أخي عبد الله بن سَلاَم قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سَلاَم فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نُصرتك؛ قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ قال فخرج عبد الله بن سَلاَم إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت فيّ آيات من كتاب الله؛ فنزلت فيّ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10] ونزلت فيّ: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} الحديث.
وقد كتبناه بكماله في كتاب التذكرة.
وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وكان اسمه في الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله.
وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جُبَيْر: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}؟ قال: هو عبد الله بن سَلاَم.
قلت: وكيف يكون عبد الله بن سَلاَم وهذه السورة مكية وابن سَلاَم ما أسلم إلا بالمدينة؟ا ذكره الثعلبي.
وقال القُشَيري: وقال ابن جُبَير السورة مكية وابن سَلاَم أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سَلاَم؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس.
وقال الحسن ومجاهد والضّحاك: هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون: {ومِن عِندِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ} وينكرون على من يقول: هو عبد الله بن سَلاَم وسَلْمان؛ لأنهم يَرَوْن أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة.
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {ومِنْ عِندِه عِلم الكِتابِ} وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليمانيّ أنه قرأ كذلك: {ومِن عِندِهِ} بكسر الميم والعين والدال: {عُلم الكِتابُ} بضم العين ورفع الكتاب.
وقال عبد الله بن عطاء: قلت لأبي جعفر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سَلاَم فقال: إنما ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد بن الحنفية.
وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه عليّ فعوّل على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» وهو حديث باطل؛ النبيّ صلى الله عليه وسلم مدينة علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم.
وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يَعْلَم الكتاب، ويُدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدقه.
قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن.
وأما من قال هو عبد الله بن سَلاَم فعوّل على حديث الترمذيّ؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبد الله بن سَلاَم شيئًا ويتناول جميع المؤمنين لفظًا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} يعني قريشًا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوّة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان.
قال النحاس: وقول من قال هو عبد الله بن سَلاَم وغيره يحتمل أيضًا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرًا مؤكدًا؛ والله أعلم بحقيقة ذلك. اهـ.

.قال الخازن:

{وإن ما نرينك} يعني يا محمد: {بعض الذي نعدهم} يعني من العذاب: {أو نتوفينك} يعني قبل أن نريك ذلك: {فإنما عليك البلاغ} يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ: {وعلينا الحساب} يعني وعلينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم.
قوله: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} يعني أو لم ير كفار مكة الذين سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم الآيات أنا نأتي الأرض يعني أرض الشرك ننقصها من أطرافها.
قال أكثر المفسرين: المراد منه فتح دار الشرك فإن ما زاد في دار الإسلام فقد نقص في دار الشرك والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنفتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم أرضًا بعد أرض حوالى أراضيهم أفلا يعتبرون، فيتعظون وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين: وذلك أن المسلمين إذا استولوا على بلاد الكفار قهرًا وتخريبًا كان ذلك نقصانًا في ديارهم، وزيادة في ديار المسلمين، وقوتهم وكان ذلك من أقوى الدلائل على أن الله تعالى ينصر عبده ويعز جنده ويظهر دينه، وينجز له ما وعده.
وقيل: هو خراب الأرض والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ونهلك أهلها أفلا يخافون أن نفعل بهم مثل ذلك، وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها.
وعن عكرمة والشعبي نحوه وهذا القول قريب من الأول وقال عطاء وجماعة من المفسرين نقصانها موت العلماء وذهب الفقهاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس»، وفي رواية «من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» قال الحسن قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار، وقال عبد الله أيضًا: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر فإذا هلك الأول ولم يتعلم الآخر هلك الناس.
وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك العلماء.
فعلى هذا القول فالمراد بالأطراف العلماء، والأشراف من الناس: حكى الجوهري عن ثعلب قال: الأطراف الأشراف.
واستدل الواحدي لهذه اللغة بقول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم إذا وردت مني ** أطراف كل قبيلة من يتبع

قال: يريد أشراف كل قبيلة.
قال الواحدي: والتفسير على القول الأول أولى لأن هذا وإن صح فلا يليق بهذا الموضع.
قال الإمام فخر الدين الرازي: ويمكن أن يقال أيضًا إن هذ الوجه لا يليق بهذا الموضع وتقديره أن يقال: أو لم يروا أن كل ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغييرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة، فيجعلهم ذليلين بعدما كانوا عزيزين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه أيضًا يجوز إيصال الكلام بما قبله.
وقوله تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه} يعني لا رادّ لحكمه ولا ناقض لقضائه، والمعقب هو الذي يعقب غيره بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب.
والمعنى: والله يحكم نافذًا حكمه خاليًا من المدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب حكمه أحد غيره بتغيير، ولا نقض: {وهو سريع الحساب} قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام ممن حاسبه للمجازاة بالخير والشر فمجازاة الكفار بالانتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدم بسط الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا: {وقد مكر الذين من قبلهم} يعني من قبل مشركي مكة من الأمم الماضية، الذين مكروا بأنبيائهم والمكر إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر مثل ما مكر نمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى،: {فلله المكر جميعًا} يعني عند الله جزاء مكرهم.